السؤال:
باب فرض الحج على من وجب عليه الحج
المفتي: الإمام الشافعي
الإجابة:
أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي بمصر سنة سبع ومائتين، قال: أخبرنا محمد بن إدريس الشافعي قال: أصل إثبات فرض الحج خاصة في كتاب الله تعالى، ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله عز وجل الحج في غير موضع من كتابه، فحكى أنه قال لإبراهيم عليه السلام: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}، وقال تبارك وتعالى: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} مع ما ذكر به الحج.
[قال الشافعي]: والآية التي فيها بيان فرض الحج على من فُرض عليه، قال الله جل ذكره: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}، وقال: {وأتموا الحج والعمرة لله}، وهذه الآية موضوعة بتفسيرها في العمرة.
[قال الشافعي]: أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عكرمة قال: لما نزلت: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال الله تعالى لنبيه فحجّهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: حُجّوا، فقالوا لم يُكتب علينا، وأبوا أن يحجوا!! قال الله جل ثناؤه: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}، قال عكرمة: من كفر من أهل الملل فإن الله غني عن العالمين، وما أشبه ما قال عكرمة بما قال والله أعلم؛ لأن هذا كفر بفرض الحج وقد أنزله الله. والكفر بآية من كتاب الله كفر [أخبرنا]: مسلم بن خالد وسعيد بن سالم عن ابن جريج قال: قال مجاهد في قول الله عز وجل: {ومن كفر} قال هو ما إن حج لم يره براً، وإن جلس لم يره إثماً، كان سعيد بن سالم يذهب إلى أنه كفر بفرض الحج.
[قال الشافعي]: ومن كفر بآية من كتاب الله كان كافراً، وهذا إن شاء الله كما قال مجاهد: وما قال عكرمة فيه أوضح، وإن كان هذا واضحاً.
[قال الشافعي]: فعم فرض الحج كل بالغ مستطيع إليه سبيلاً، فإن قال قائل: فلم لا يكون غير البالغ إذا وجد إليه سبيلاً ممن عليه فرض الحج؟ قيل: الاستدلال بالكتاب والسنة، قال الله جل ذكره: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} يعني الذين أمرهم بالاستئذان من البالغين، فأخبر أنهم إنما يثبت عليهم الفرض في إيذانهم في الاستئذان إذا بلغوا، قال الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}، فلم يأمر بدفع المال إليهم بالرشد حتى يجتمع البلوغ معه، وفرض الله الجهاد في كتابه ثم أكد اليقين (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن عمر حريصاً على أن يجاهد وأبوه حريص على جهاده وهو ابن أربع عشرة سنة، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد ثم أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغ خمس عشرة سنة عام الخندق)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم المُبيِّن عن الله ما أنزل جملاً من إرادته جل شأنه، فاستدللنا بأن الفرائض والحدود إنما تجب على البالغين، وصنع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد مع ابن عمر ببضعة عشر رجلاً كلهم في مثل سنه.
[قال الشافعي]: فالحج واجب على البالغ العاقل والفرائض كلها، وإن كان سفيهاً وكذلك الحدود، فإذا حج بالغاً عاقلاً أجزأ عنه ولم يكن عليه أن يعود لحجة أخرى إذا صار رشيداً، وكذلك المرأة البالغة.
قال: وفرض الحج زائل عمن بلغ مغلوباً على عقله؛ لأن الفرائض على من عقلها، وذلك أن الله عز وجل خاطب بالفرائض من فرضها عليه في غير آية من كتابه، ولا يخاطب إلا من يعقل المخاطبة وكذلك الحدود، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك على ما دل عليه كتاب الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ"، فإن كان يُجَنُّ ويُفيق فعليه الحج، فإذا حج مفيقاً أجزأ عنه، وإن حج في حال جنونه لم يجز عنه الحج وعلى ولي السفيه البالغ أن يتكارى له ويمونه في حجه؛ لأنه واجب عليه ولا يضيع السفيه من الفرائض شيئاً وكذلك ولي السفيهة البالغة.
[قال الشافعي]: ولو حج غلام قبل بلوغ الحلم واستكمال خمس عشرة سنة ثم عاش بعدها بالغاً لم يحج لم تقض الحجة التي حج قبل البلوغ عنه حجة الإسلام؛ وذلك أنه حجها قبل أن تجب عليه وكان في معنى من صلى فريضة قبل وقتها الذي تجب عليه فيه في هذا الموضع فيكون بها متطوعا كما يكون بالصلاة متطوعاً، ولم يختلف المسلمون عليه فيما وصفت في الذين لم يبلغوا الحلم.
والمماليك لو حجوا وأن ليست على واحد منهم فريضة الحج، ولو أذن للملوك بالحج أو أحجه سيده كان حجه تطوعاً لا يجزي عنه من حجة الإسلام إن عتق ثم عاش مدة يمكنه فيها أن يحج بعدما ثبتت عليه فريضة الحج.
[قال]: ولو حج كافر بالغ، ثم أسلم لم تجز عنه حجة الإسلام؛ لأنه لا يكتب له عمل يؤدى فرضاً في بدنه حتى يصير إلى الإيمان بالله ورسوله، فإذا أسلم وجب عليه الحج.
[قال]: وكان في الحج مؤنة في المال وكان العبد لا مال له؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن بقوله: "من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع"، فدل ذلك على أن لا مال للعبد، وإنَّ ما ملك فإنما هو ملك للسيد، وكان المسلمون لا يورثون العبد من ولده ولا والده ولا غيرهم شيئاً، فكان هذا عندنا من أقاويلهم استدلالاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه لا يملك إلا لسيده، وكان سيده غير الوارث، وكان المسلمون لا يجعلون على سيده الإذن له إلى الحج فكان العبد ممن لا يستطيع إليه سبيلاً، فدل هذا على أن العبيد خارجون من فرض الحج بخروجهم من استطاعة الحج وخارج من الفرض لو أذن له سيده. ولو أذن له سيده وحج لم تجز عنه، فإن قال قائل: فكيف لا تجزي عنه؟ قلت؛ لأنها لا تلزمه، وأنها لا تجزي عمن لم تلزمه، قال: ومثل ماذا؟ قلت: مثل مصلي المكتوبة قبل وقتها وصائم شهر رمضان قبل إهلاله لا يجزئ عن واحد منهما إلا في وقته؛ لأنه عمل على البدن والعمل على البدن لا يجزي إلا في الوقت، والكبير الفاني القادر يلزمه ذلك في نفسه وفي غيره وليس هكذا المملوك ولا غيره البالغ من الأحرار، فلو حجا لم تجز عنهما حجة الإسلام إذا بلغ هذا وعتق هذا وأمكنهما الحج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأم - كتاب الحج.