وذكر عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل
الصدقة لغني إلا لخمسة: الغازي في سبيل الله أو العامل عليها أو الغارم أو رجل
اشتراها بماله أو رجل له جار مسكين تصدق على هذا المسكين فأهدى إلى الغني وأخذ أهل
المدينة بظاهر الحديث وقالوا: تحل الصدقة للغازي وإن كن غنياً وللغارم إذا كان
غرمه لإصلاح ذات البين وإن كان غنياً ولكن تأويل الحديث عندنا: إذا كان الغازي
غنياً في أهله وليس بيده مال حيث هو فحينئذ لا بأس له أن يأخذ من الصدقة ما يتقوى
به وكذلك الغارم إذا كان ماله غائباً عنه أوديناً على ظهور الرجال لا يقدر على أخذه
فهما حينئذ بمنزلة ابن السبيل فأما من يكون ماله بحضرته وذلك فوق ما عليه من الدين
بقدر نصاب لا يحل له أخذ الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة
لغني " وأما العامل فما يأخذه عمالة وليس بصدقة في حقه فغناه لا يمنعه من أخذه
والمشتري من الفقير إنما يأخذه مبيعاً عوضاً عن ماله.
والذي أهدى إليه المسكين إنما يأخذه هديه لا صدقة على ما قال صلى
الله عليه وسلم في حديث بريرة رضي الله عنهما: " هي لها صدقة ولنا هدية ".
وذكر عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلاً سأله عن التهلكة أهو
الرجل إذا ما التقى الجمعان حمل فقاتل حتى يقتل فقال: لا ولكنه الرجل يذنب ثم لا
يتوب وهو المراد بمعنى قوله تعالى {وَلاَ تُلْقُواْ
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة: 195 فوقع عند السائل
أن من حمل على جماعة من الأعداء يكون ملقياً نفسه في التهلكة فبين له البراء بن
عازب ن الملقي نفسه في التهلكة من يذنب ثم لا يتوب فإنه يصير مرتهناً بصنيعه فأما
من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة
الأبدية كيف يكون ملقياً نفسه في التهلكة ثم بين المذهب فقال: لا بأس بأن يحمل
الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً يقتل أو يجرح أو يهزم فقد
فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على
ذلك وقيل لأبي هريرة: ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل
وألقى بيده إلى التهلكة فقال: كلا ولكنه تأول آية من كتاب الله وهو قوله تعالى{ وَمِنَ النَّاسِ
مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} البقرة: 207
فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم لأنه لا يحصل
بحملته شيء مما يرجع إلى إعزاز الدين ولكنه يقتل فقط وقد قال الله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ
أَنفُسَكُمْ} النساء: 29 وهذا بخلاف ما إذا أراد أن ينهى قوماً من
فساق المسلمين عن منكر وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بنهيه وأنهم يقتلونه فإنه لا بأس
له بالإقدام على ذلك وهو العزيمة وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت لأن القوم هناك
يعتقدون ما يأمرهم به فلا بد من أن يكون فعله مؤثراً في باطنهم فإما الكفار غير
معتقدين لما يدعوهم إليه فالشرط أن تكون حملته بحيث تنكي فيهم ظاهراً فإذا كان لا
ينكي لا يكون مفيداً فيما هو المقصود فلا يسعه الإقدام عليه والله الموفق.